السبت، 7 أغسطس 2010

غصن الموت ( قصة)


- غـــصن المـــوت -


أردف باب الغرفة المهترئ من جلدات الزمن القاسي .. أغلقه بيده المسودة بسبب تنظيف المداخن .. رمى حقيبته القماشية الباليه جانبا ً فتناثر ما بداخلها .. فرشة صغيرة ومجموعة خرق ورماد .. تقدم بخطواته الصغيرة لأنبوب الماء الذي يقطر قطرات في حوض صغير جلس على ركبتيه .. غرف القليل من ذلك الحوض وغسل يديه ومسح وجهه وشعره ..


صوت سـُعال وأنين حزين من الغرفة المجاورة .. قام متثاقلا ً متوجها ً إليها .. دخل كانت مستلقية على الأرض .. متدثرة بلحاف صوفي مرقع .. أعياها المرض هي أيامها الأخيرة كما قيل لهم .. جلس بجانب رأسها واضعا ً يده على جبينها المتعرق أشتق ابتسامة سرقها برهة ليعرضها لـعينيها قائلا ً : مرحبا يا أختي .. كيف حالك ِ اليوم؟ أجابت بصوت أنهكه خبث المرض و أعياه جفاف الفم : بخير .. لكني عطشه


تلفت يمينا ً وشمالا ً .. فرأى ذاك الإناء الصغير يستغيثه يناديه ليحمله .. أخذه أشبعه بالماء وأحضره لها أخذت رشفه .. ثم سعلت بقوة .. تشبثت بيد أخيها : أخي .. هل سقيت الشجرة ؟ فرد عليها بعبرة تخنقه وكأن الحروف تخرج من مزمار حياته : سأسقيها .. و لــ كــ ن .. أنتِ اشربي مدت له الإناء وقالت بصوت تتعلق به الأحزان: أحمد .. خذ الماء لشجرة أمي .. اسقِها .. فهي ذابلة أخذ منها الإناء بهدوء وقال مطأطئا ً برأسه: سأسقيها ..


ذهب إلى جانب الشجرة و وضع الإناء بجانبها .. لا ماء .. لا كهرباء .. لا غذاء .. فقط كسيرات خبز وذكريات منذ أن رحل أبيهما السكير الرعديد .. ناضلت أمهما حتى الموت ليعيشا على فتات العيش لينجوا من سوط الحياة القاسي .. ليصمدوا في معركة الغني والفقير .. الحياة و الموت


جلس على الكرسي بجانب الشجرة الصغيرة .. كانت أمه تهتم بها وتقول " إن الحياة هبة .. والحفاظ عليها موهبة " كانت تحرص على سقايتها .. كانت بالنسبة لها الأمل في الحياة الصعبة .. الاقتناع بالقليل من الماء والأملاح في التربة كانت تتأمل كثيرا ً وريقاتها الخضراء وأغصانها الكثيرة .. كانت تعتقد أنه إذا كان بمقدور هذه الشجرة الصغيرة العيش في هذه العلبة مع إيناعها أوراقا ً خضراء و غصون كثيرة .. أدركت الأم أكثر أنها قادرة على أن تصمد في وجه المصاعب وتظل معطاءة حاملة أبنيها


تنهد وقال بصوت تسمعه أخته: سكينة.. منذ أن ماتت أمي .. وهذه الشجرة لا تكف عن الموت ! .. فهي تجف يوما ً بعد يوم ! سعلت من جوف صدرها الصغير .. أخذت نفسا وقالت: ربما هي تموت معنا ؟ أجابها بتوتر وخوف : أصمتي .. فمرضك ِ أثر على عقلك ِ كثيرا ً .. نظرت إلي السقف الخشبي المهترئ : أخي .. إني جائعة .. قال وهو متوجه إليها : إنه الشتاء سيكون عملي أكثر .. فالمداخن تــُستــَخدم كثيرا ً .. سأكسب المال لأشتري الخبز لا تخافي


ألحفها بغطائها الرقيق .. ليست هناك أغطيه إلا هذا .. جلس بجانبها مسندا ً رأسه على الجدار وهو يقول: أتذكرين كم كان الدفء يغطي المكان .. كانت غرفتنا تزدهر بالألوان .. بيتنا صغير غرفتين وحمام .. لكن أمي كانت تضفي عليه دفأ ولونا منذ رحيلها اكتسينا بالسواد وأصبح كل شيء رمادي .. بلا لون ولا رائحة !.. حتى ثيابنا تخلت عن ألوانها.. والطعام طلق رائحته !


هبت ريح باردة .. مصدرة ً صوتا ً عند أطراف النافذة .. صوتا ً صارخا ً مستهزئ من فقرهم .. دخلت رياح باردة ً متمردة على حرارة أجسادهم ناما وغرقا في بحر أحلامهما .. وهنا .. تواطأ ليل الشتاء الطويل وجسدها الهزيل معا ً .. لينفذا حكم القدر .. مؤامرة بين حرارة جسمها المحتضرة و عذابات الألم المتمردة .. طـُعنت .. قـُتلت !


صحى من غفوته أرتجف قليلا ً ثم قال بصوت هادئ: بعنا كل شيء ! آآآآآآه .. لابد وأن أبتاع لحاف لي .. ولسكينة أيضا ً أقترب منها نظر لـ عينيها المفتوحتان ناحية السقف كعادتها وقال والدمعة تزاحم جفنيه للخروج: لا تخافي يا حبيبتي سأعمل وسأجني المال .. لأشتري لك ِ الدمية التي طالما رغبتي بها من ذاك المتجر ..( نزلت دمعته وقال) ستــُشفين و سـتسقين الشجرة بنفسك ِ لتزهر وتخضر مرة ثانية .. ( نظر إليها وناداها ) .. سكينة .. سكينة ..


وضع يده على جبينها اتسعت عيناه .. فرقصت الرياح فرحا ً ... و ذاب قلبه حزنا ً تجمدت يده على جبينها البارد .. تجمد مكانه .. برودة الشتاء جالت حوله باستهزاء وصوت النافذة بدا وكأنه صفير إنذار لغضب حرب قادمة .. أغمض عينيه .. فتحهما بحقد قام صارخا ً بهستيريا جنونية وأصبح يلوح بيدين عاريتين بالهواء .. يقاتل أعزلا ً وهو يصرخ


أذهبي أيتها الرياح .. تبا لك ِ .. أخرجي .. دعينا .. اتركينا راح يمينا ً .. وشمالا ً .. ثم جثا عند أخته تفحصها .. نظر إليها .. طفلة متجمدة أعياها المرض والجوع والبرد .. سكون ! لا صوت غير صفير النافذة أخذ إناء الماء .. ورماه على النافذة الهرمة المتشلخه ... كسرها وهو يصرخ : أخرسي .. لا صفير .. أخرسي .. سأقتلك ِ .. دموعه على وجهه ورقبته .. وقف برهة متحيرا ً صدره يرتفع ويهبط بزفير حار .. ذو شجون وأحزان فتح الباب .. خرج .. دخل ... فخرج .. فدخل .. وهو يبكي


رأي الشجرة .. ذهب إليها مسرعا ً أنقض على غصنها الهزيل .. هزها صارخا ً بعينين منكسرتين: رحلت .. ماتت .. (انهالت دمعاته على تربتها .. تناثرت وريقاتها اليابسة حزنا ً .. تساقطت معلنة انتهائها ) كيف تدعينها .. آآآآه .. م ا ت ت .. ر ح ل ت !!


توقف تدريجيا عن هزها .. خر على الكرسي بجانبها ويده متشبثة بغصنها .. هي الحياة الوحيدة في هذه الغرفة معه .. أنزل رأسه باكيا ً.. حانقا ً على الزمن وعلى حياة قاسية .. أنينه كالمجروح الغريب .. بكائه كالآم الوالهة على طفلها .. فقد طفلته .. أخته .. فقد سكينة


قبض على غصن الشجرة الهزيلة سقطت ورقة من وريقاتها.. تذكر صوت أخته قائلة " ربما هي تموت معنا ؟ "




أغمض عينيه .. أحكم قبضته على غصنها .. قال بصوت خائف يائس : لا تتركيني وحيدا ً


بقلم علي البحراني

هناك 3 تعليقات:

  1. قصة البدايه كالنهايه
    جداً رائعه وصعب الوآحد يفهمهآ علطول
    بس فهمتها فالنهايه
    جداً مبدع ياعلي فكل مجآل تكون فيه،،
    موفق،،
    الريمـ

    ردحذف
  2. اهلا اخت ريم .. شكرا لمتابعتكِ
    واتطلع لرأيكِ لبقية القصص

    تحياتي

    ردحذف
  3. قلمك جدا مميز ورائع سلمت اناملك ويداك
    صراحه كل قصه تقول الزود عندي اسلوب قصصي مشووق ومبدع يجذب القارئ
    ربي يوفقك ان شاء الله وتصير من اشهر كتاب العالم
    تحياتي
    رحاب البحراني

    ردحذف