السبت، 5 مارس 2011

دُخــان الدمــاء


هدوء لثوان ٍ .. لا يُسمع إلا تساقط القطع الصخرية الصغيرة من السقف .. صوت أنفاسي .. و أنين امرأة .. أزحف على الحطام في هذه الخربة جارا ً معي عجوز مصابة .. وبندقيتي تسحبني ! .. التقطت أنفاسي لبرهة ثم ألتفت خلفي " أصمدي قليلا يا عجوز  أصمدي .. فهذه ِ الحرب لا تعرف الطبقية ولا الاختلافات الجنسية " .. تبا ً لا أعلم لما اعتصرني قلبي وأمرني بجرها معي ، الساحة مليئة بالجثث ولن يزيدها سوءا حمل جثة هذهِ المرأة الهرمة .. سحبتها قائلا " بحق الآلهة عليكِ يا شمطاء، أعينيني بسحب جثتكِ النازفة " جاوبتني بتأوه ٍ و أنين .. رفعتُ الخوذة عن رأسي المتعرق ورميتها بها  "حسنا ً موتي هنا فوق الحطام فكم بقي لكِ من العمر ِ أساسا ً .. موتي .. ودعي الحياة للشباب " تركتها وحضنت خوذتي وبندقيتي، اللعنة كم أكره شهر آب حين يخنقنا برطوبة عرقه النتنة ويلهبنا حرارة من أنفاسه الخانقة.


صوت الطائرات دوى المكان .. سحقا ً سيبدؤن تعزيرنا، خرجتُ من الخربة راكضا ً هاربا ً ناسياً الخوذة .. نزلوا من المروحية أفواجا ً .. تلبدت تحت سيارة محترقة .. أين أبي ؟ فهو لواء كتيبتنا، هل مات ؟ .. لا لا كلها إشاعات لإضعافنا .. تصاعد غبار الهيجاء وبدأ القصف ورماية النار .. أرميهم من بين فتحات السيارة المحترقة .. وأصرخ فيهم " سأبيدكم عن بكرة أبيكم يا أوغاد " .. رائحة دماء الجثث المختلطة بالطين سببت لي الغثيان .. هدوء لثوان ٍ .. نظرت بين جنبات الحطام وأنا ألهث .. لا كائن حي .. فالكل نيام .. كفاكم نوما وهبوا للقتال.


هدوء .. لا وجود إلا للدخان .. استندت على السيارة المهشمة لأستريح فقد رحلوا ، أشعلت سيجارة علني أحرق روحي قبل جسدي .. نفثت دخانها ليختلط بدخان البارود .. نفثت بقوة أكبر ولكن دخان البارود أكثف .. فليذهب البارود إلى الجحيم فدخان السجائر أشرف .. سئمت الحرب والقتال .. سمعت مجموعة من الجنود تصرخ .. نظرت من تحت السيارة وشفتاي متشبثة بسيجارتي .. الأعداء أخذوا أسيرا ً .. دققت النظر وإذا به أبي ! .. سحقا ً قبضوا عليه ! .. إختبأت في ذات مكاني , صدري يصعد ويهبط بقوة .. غضب اجتاحني .. أبي لا تمت مرة ثانية ! .. رميتُ سيجارتي بحنق .. وقفت خلف السيارة صارخا ًً أطلق النار عليهم ويطلقون علي .. أبي حاول الهروب .. رموه فسقط على وجههِ .. داسوه على رأسه .. أحاطوه بركلاتهم .. نزلت المروحية .. وأنا أرميهم ويرموني .. أصبت بكتفي ورجلي .. هربوا الجبناء ضاحكين وكبيرهم بصق على أبي قبل شروده .. غادروا بالمروحية .. ركضت لأبي .. سحبته إلى السيارة المحترقة وضعته فيها .. أبي .. لا تمت يا أبي .. لم يجبني بل كان جثة هامدة .. بلا حراك !


صراخي دوى المكان .. وكأن صوت الحرب صوتي .. وكأن الدمار من صوتي .. بكيت ! وأنا الذي لم أبكِ منذ كنت صبيا ً .. سميت ُ برجل الصخر .. وصاحب العين الناشفة ! .. لما أبكي الآن ؟ أصرخ مناديا ً أبي باسمه .. الدخان حجب الرؤية .. صوت الطائرات يقترب ويبتعد .. وانفجار كل دقيقة .. مهلا ً .. ما هذا الصوت الغريب ! .. هناك من يناديني باسمي .. إلتفتُ فرأيت ُ رجلا بلباس أبيض ماسكاً بقلم و أوراق .. واقف من بعيد يناديني وكأنه يقول لي " أهدأ لا عليك ! .. أمسكوه .. هدئوه " .. وإذا بثلاث نساء بنفس اللباس يخرجن من خلفه .. يركضن نحوي من بين الدخان .. مسكوا بأكتافي .. قاومتهم ماذا تريدون .. أهربوا فالقصف آت ٍ .. حقنتني إحداهن بإبرة في كتفي .. لطمتها شاتما ً وأنهلت عليها باللعنات .. " ماذا فعلتِ يا رعناء .. تبا ً .. أشعر بالدوار .. أين سجائري .. " .. دخان الحرب ينقشع تدريجيا ً .. أرى خضرة تحاصرني .. ورائحة الورود تتسلل إلى أنفي .. الرجل الذي رأيته أتضح أنه طبيب والنساء ممرضات ! .. ساقط ٌعلى الأرض .. تبدل لباسي العسكري بلباس المرضى ! يا إلهي ماذا يحدث !


جاءني الطبيب وضع يده على رقبتي ناظرا ً إلى ساعته ثم قال لي "جاءت نوبة أخرى .. " .. فصرخت به أنا بخير .. ألحقوا أبي إنه يحتضر .. بل مات مرة أخرى ! فقال الطبيب: " لا وجود لحرب ولا جثث .. وأبوك مات منذ الحرب القديمة .. كل ما تعيشه هو أهوام وخيالات " .. أشرتُ إلى السيارة المحترقة وقلت له باكيا " أرجوكم إنه هناك أغيثوه " .. قال لي من غير أن يرفع عينيه عني " أين السيارة وأين والدك؟ أنظر جيدا ً " نظرتُ .. السيارة تحولت إلى كرسي ! .. خوذتي كانت سطل صغير .. و ماهذه ِ العصا أهي بندقيتي ؟ لاه مستحيل .. مستحيل


أردف الطبيب قائلا "السيارة التي غالبا ً كنت تختبئ خلفها وتنظر من بين جنباتها ما هي إلا كرسي حديقة المستشفى وكل ما تهلوس به هو هنا حولك" .. نظر إلى الممرضات وأمرهم بإدخالي إلى المستشفى ! .. ألتفت إلي قائلا " الآن حتى الحديقة سأمنعك منها " .. مهلا ً .. لا أريد .. أعيدوني .. أبي يا أبي .. أريد أن أنقذه .. لم يمت .. رأيت أمي ! .. صرختُ " أمي أخرجيني .. يردون أسري وتعذيبي" .. جاوبتني بدموعها " ولدي قطعت قلبي لما لا تعود لرشدك .. أبوك أستشهد في الحرب وأنت صبي .. لا تستطيع أن تنقذه الآن" .. أتحسبونني جننت ؟ .. تبا ً لكم جميعا ً ... لستُ يتيما ً .. لدي أب ... وسأنقذه رغما عنكم بكت أمي والطبيب يحاول تهدئتها .. يحسبونني فقدت عقلي وصوابي .. آه ِ يا أبي .. ربطوني بلباس أبيض ! .. وثبتوني على سرير .. يريدون موتي يا أبي سيعذبونني الآن بالكهرباء والنار .. لكني لن أخون .. ولن أعترف .. سأضل صامدا .. وسأحارب لأجلك يا أبي ..


أطفأوا الأنوار .. وأغلقوا الباب
ابتسمت في الظلام .. أغمضت عيني
أراكم غدا ً يا أوغاد سأقتلكم جميعا ً .. وأنقذ أبي




ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: م. علي البحراني