" بقــايا طـعام "
لم يكن يتوقع أن يكون العالم بهذا البرود أو أن الناس بهذه القسوة ..
تقدم بتردد خطواته الصغيرة .. راقب المكان بنظرات حائرة مترقبة ..
فـُتح الباب .. رفرف قلبه الصغير فرحا ً مستبشرا ً، لكن سرعان ما خاب ظنه
عندما خرج خالي اليدين .. أنطفأ بريق عينيه خيبة ً و الحسرة ! .. عاد إلى زاويته ينتظر و يـُفكر
دُنيا سرقت والده وأرسلت جنود العلة والأمراض لجسد أمه الهزيل لتأخذ روحها أيضا ً
وأخته الوحيدة رحلت مع وحش في جسد إنسان تربطهم رابطة تسمى الزواج !
بقي وحيدا ً ..
ترعاه تلك المرأة العاقر العجوز الساكنة في آخر الحي .. تولت رعايته منذ أن كان في الثانية من عمره ..
تبنته لثلاث سنوات، بدت حياتهما مرضية إلا أن عوزها للمال نغص عليهما المعيشة ..
" لابد وأن نجد لك عملا ً! " هذا ما قالته لهذا الفتى الصغير !
اتكأ بظهره على الجدار وعيناه متسمرتان ناحية الباب منتظرا ً، انخفض حتى جلس .. وضع يداه حول ركبتيه منكمشا ً على نفسه من قرصات باردة
جسمه الهزيل لم يقاوم هجوم جنود الرياح الباردة و بخار أنفاسه لم يسعفه في تدفئة أطراف أصابعه اليابسة..
أناس مهندمين متبسمين يخرجون من الباب الأمامي.. يشفقون على هذا الفتى .. والبعض يرمي عليه بضع نقود ..
لإسكات زوجته العطوف التي لا تكف عن الشفقة على هذا الكائن البشري، بينما هو ينتظر الخارج من الباب الخلفي
بيدين ترتجفان أبعد خصلات شعره عن عينيه و هو يترقب فتح الباب .. خرج ذاك الرجل الضخم بلباسه الأبيض
مرتديا ً قبعة بيضاء أأسطوانية الشكل على رأسه، رمى كيس المهملات بالقرب من الحاوية فأخطأها كالعادة لتنتثر على الأرض!
أسرع بلهفات الفرحة .. أنقض على كيس القمامة متبسما ً كالفائز بجائزة النصر بعد زمن من الجهد والتعب ..
جالسٌ على ركبتيه .. أدخل رأسه داخل ذاك الكيس الكبير المليء ببقايا الطعام .. وبعض الأطباق الكاملة التي لم تلمس !
كان يحمل قطع اللحم ويضعها في جيبه .. ثم يضع قطع الحلوى .. بعد أن انتهى من تنبيش غنيمته ذهب مسرعا ً
إلى إشارة المرور بالقرب من الشارع المقابل .. جلس عند عجوز متدثرة بلحاف أسود مرقع ويدها ممتدة تطلب العون من المارة ..
جلس بالقرب منها رسم ابتسامة على شفتين كسرتهما قرصات البرد .. و أنشفتهما رياح الشتاء .. تبسم وقال " أنظري .. جلبت طعاما ً "
فقالت له العجوز " وكيف هذا ؟ هل سرقته " .. هز رأسه بالنفي وقال " بل أخذته من ذاك المطعم الكبير هناك "
أشاحت بوجهها عنه وقالت باستهزاء " قلت لك يجب أن نعمل ! نكسب مالا ً .. لا أن نأكل بقايا طعام الآخرين "
أخفض رأسه وقال بصوت حزين هادئ :
" أمي كانت تقول لي لا ضير من العمل و لا سوء في النوم جياع ولا ذل من أكل الشتات .. لكن الذل أن تتوسل بيدك من أيد الناس "
توقفت العجوز لبرهة ! .. أخفضت رأسها .. قطرات الدموع تزاحمت متسابقة للخروج من حدقت عينيها الكسيرتين .. هربت دمعة
شقت طريقها بين تجاعيد الجوع والزمن القاسي .. بللت عمق الحفر و الإنحنائات على خدها .. احتضنته باكيه .. وهو ؟
هو كان يواسيها بقطعة حلوى أخرجها من جيبه!
ــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: علي البحراني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق